تمثل الكأس المقدسة لغزا روحيا لاسيما في التقليد السائد عند دارسي علوم الغيب والسحر والمنتسبين إلى الجماعات السرية في الغرب وخصوصا في بريطانيا.
وللكأس علاقة رمزية وثيقة بعلم الخيمياء( علم في القرون الوسطى ظاهره السعي لتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، وباطنه التوصل إلى جوهر الإنسان الروحي وتحقيق الخلود).
فكما تقول "روزماري غيلي" في موسوعتها سابقة الذكر، "إن الكأس في الخيمياء "تمثل حجر الفلاسفة، الذي يمثل بدوره الاتحاد مع الله. وفي البوذية التبتية تتوحد الكأس مع رمزية التحول المادي والروحي. كما تمثل برموز أنثوية مثل الصحن أو الرحم أو حجارة كريمة".
والكأس المقدسة تمثل في الخيمياء "فهم ما هو إلهي ، وتمثل نقطة التقاء العالمين المادي والروحي"، كما تقول "تيريزا تشييونغ" في "الموسوعة الأساسية للعالم الروحي"، وهي "شيء لا يمكن لأحد أن يراه ما لم يكن قد وصل إلى مستوى معين من الوعي الروحي
الدم المقدس والكأس المقدسة
طرح بعض الباحثين والمؤلفين نظرية حديثة مفادها أن الكأس المقدسة تمثل استعارة تخفي وراءها "سلالة المسيح" وأصل تسلسل عائلته.
وحاول هؤلاء إقناع الناس أن هذه الفكرة "حقيقة" وكانت معروفة لدى الصفوة من الحكماء وأصحاب الصنائع المهرة الذين قاموا بإخفاء و "تشفير" هذا "السر" داخل أعمال فنية ومعمارية عبر العصور.
يرى باحثون رغم ذلك أن الكأس المقدسة ربما تكون بالفعل استعارة تربط بين المسيح وسلالته، وحسب هذه النظرية فإن "يسوع المسيح تزوج مريم المجدلية قبل موته وأنها حملت منه طفلا( أو طفلة)، وانتقلت إلى فرنسا، ومن المفترض حسب هذه النظرية أن سلالة المسيح لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وأن هذه السلالة تزاوجت مع قبائل "الفرانك"، وأثمر ذلك عن الملوك "الميروفيجيين" في جنوبي فرنسا.
أما أول من نشر هذه الفكرة بالتحديد على نطاق واسع فهم المؤلفون "مايكل بيغينت" و "وهنري لنكولن" و "ريتشارد ليغ" في كتابهم البحثي " الدم المقدس والكأس المقدسة"، والذي نشر أول مرة عام 1982 م، وبات الآن محط اهتمام القراء والباحثين بسبب الشعبية منقطعة النظير التي لاقتها رواية " شيفرة دافنشي" لمؤلفها "دان براون" والتي "استلهم" قدرا كبيرا من أفكارها من بحث مؤلفي الكتاب السابق.
ويعتقد باحثون أن كتاب " الدم المقدس والكأس المقدسة" كان المسؤول الأساسي والوحيد عن إطلاق تصورات تاريخية ودينية ثورية لم يسبق لأحد أن ناقشها علنا من قبل.
فكرة أن الكأس تمثل مريم المجدلية وسلالة المسيح هي أهم أفكار شيفرة دافنشي
وفضلا عن ذلك فهذا الكتاب هو الوحيد الصادر باللغة الإنكليزية بين الكثير من الكتب التي تناولت منظمة "بريوري أوف سيون" (دير صهيون) السرية من حيث أن مؤلفيه الثلاثة اتصلوا مباشرة وفعلا مع شخص يفترض أنه يحمل درجة أستاذ أعظم( لقب في سلم الترتيب في عدد من المنظمات السرية) في هذه المنظمة وهو "بيير بلانتارد".
وحسب أرشيف هذه المنظمة المسمى "ملفات الأسرار" تزعم هذه المنظمة ( التي تأسست عام 1090م في الأراضي المقدسة( فلسطين) على يد "غودتري دي بوليون" الذي احتل القدس عام 1099 م) أنها القوة الخفية وراء تأسيس تنظيم "فرسان الهيكل" (أسس عام 1112م وكان يتعاون بشكل وثيق مع تلك المنظمة السابقة، لكن وقع خلاف بينهما أدى إلى قطع العلاقات الثنائية بينهما عام 1188م).
وتزعم تلك المنظمة السرية أيضا أن من أعضائها ممن حملوا لقب أستاذ أعظم كل من "فيكتور هوغو" (1844- 1885م) وإسحاق نيوتن ( 1654-1727 م) و ليوناردو دافنشي (بين عامي 1510-19).
وحسب "بلانتارد" فإن بحوزة منظمته "سر الكنز الضائع (المزعوم) لـ"هيكل سليمان" في القدس، وإنه سيعاد إلى هناك يوما ما في الوقت المناسب، لكنه يشدد على أن أهمية هذا "الكنز" هي بالدرجة الأولى روحية وأن جزءا من الطابع الروحي لهذا "الكنز" يتضمن "سرا" سوف يؤدي الكشف عنه إلى تغيير اجتماعي كبير في العالم الغربي".
ومن هنا يضع كاتبو "الدم المقدس والكأس المقدسة" نظريتهم في الجزء الثالث من الكتاب وفحواها أن "الهدف الحقيقي والسري لمنظمة "بريوري دي زيون" هو حماية السلالة المقدسة المنبثقة من أبناء وأحفاد المسيح ومريم المجدلية ممن يريدون بهم الضرر".
وإذا كنا قد ذكرنا رواية "شيفرة دافنشي" باعتبارها الرواية الأشهر التي روجت لفكرة تفترض أن المسيح تزوج مريم المجدلية وأنجبت منه بعد الصلب (حسب الاعتقاد المسيحي)، وأن سلالتهما تم إخفاؤها صونا لها، فإنه يجدر بنا أن نذكر أنها ليست الرواية الأولى التي تتحدث عن هذه الفكرة، وإن كان "دان براون" قد اأخذ كثيرا من أفكار روايته من كتاب "الدم المقدس والكأس المقدسة"( وهذا وما تسبب في رفع مؤلفي البحث قضية في محاكم لندن قبل مدة قصيرة ضد براون اتهموه فيها بالسرقة الأدبية وتجاوز حقوق الملكية الفكرية، وهي القضية التي خسروها لاحقا).
دان براون اعتمد بشكل كبير على بحث "الدم المقدس والكأس المقدسة
ففي عام 1946 صدرت رواية للكاتب وجامع الأساطير "روبرت غريفز" بعنوان "الملك يسوع"، أشار فيها إلى نفس الفكرة.
رسائل سرية الكتاب المقدس
الباحثة في دراسة الكتاب المقدس الدكتورة "باربرا ثيرينغ" من "جامعة سيدني" في أستراليا تعتقد أن هناك إشارات مخفية موجودة في الأناجيل تشير إلى زواج المسيح بمريم المجدلية، وذلك إذاعرف المرء كيف يقرؤها.
وقد طورت د."ثيرينغ" تقنية تعرف باسم "بيشار"( وهي كلمة عبرية تعني " التأويل") وطبقتها على بعض ما ورد عن مريم المجدلية في الأناجيل.
وربما تبدو الفكرة شاطحة في ما تطرحه، لكنها تستمد قوة من "إنجيل لوقا" والذي يبدو أنه يلمح إلى استخدام شيفرة ما. لكن هذه الفكرة فشلت حتى الآن في استقطاب تأييد من باحثين آخرين في نفس المجال
المسيح لم يتزوج
في ضوء ما تقوله بعض المصادر التاريخية والأدبية الحديثة نسبيا عن أن الكأس المقدسة هي إشارة إلى مريم المجدلية وإن هذه المرأة كانت زوجة للمسيح، يقر الأكاديميون المختصون في دراسة "الإنجيل" أنه لا وجود لدليل يثبت أن المسيح لم يكن متزوجا.
لكنهم من ناحية أخرى يرفضون تلك الفكرة، التي أبرزها كاتب رواية "شيفرة دافنشي" والتي يزعم فيها أن بعض نصوص الإنجيل تتضمن إشارات إلى زواج المسيح بمريم المجدلية، كما يرفضون زعمه أن الكنيسة في روما ومؤسسي المسيحية الأوائل عملوا على طمس دور مريم المجدلية خوفا من تأثيرها الذي قد يقوض سطوة الكنيسة ودورها المركزي في العالم المسيحي.
كما سارع مؤرخو الفن إلى نفي مزاعم "دان براون" عن وجود رسائل خفية في لوحة "العشاء الأخير" للفنان الإيطالي "ليوناردو دافنشي" وبرروا هيئة يوحنا الأنثوية في الصورة بأسلوب الرسم لدى معاصري دافنشي.
ويعتقد باحثون مثل "بارت إهرمان" أستاذ الدراسات الدينية في "جامعة نورث كارولينا" الأمريكية أن المسيح لم يكن متزوجا، ويقول :" لو كان المسيح متزوجا لكان هناك دليل أو ما يشير إلى هذا الأمر، لكن لا وجود لمثل ذلك."
ويجادل باحثون بأن ما ورد في رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون عن "إنجيل فيليبُس" ( أحد الأناجيل "الغنوسطية"(=العارفة بالله) التي اكتشفت عام 1945 في مصر وكتب في القرن 2 م وسلط المزيد من الضوء على المعتقدات بخصوص المسيح) لا يمكن الاعتماد عليها، لأن "إنجيل فيليبُس" لا وجود له في "العهد الجديد" وهو يعتبر من أناجيل الـ" أبوكريفا"( تعني كتابات أو أحاديث دينية مشكوك في صحتها وتعني أيضا "الأسفار الأربعة عشر" في "التوراة السبعينية" والتي يرفضها اليهود تماما، ولا يعترف بها البروتستانت، لكن الكاثوليك يعترفون بأحد عشر منها فقط) التي كتبت في فترة تمتد حتى 300 سنة بعد الأناجيل الأربعة المعروفة، ولا يزال الباحثون الإنجيليون يشككون فيها بشدة
الكنيسة و الكأس
من المفترض للكأس المقدسة بطابعها المسيحي المميز أن تحظى برضا أوساط الكنيسة الكاثوليكية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك تماما.
فـ"الموسوعة الكاثوليكية" تقول " إنه باستثناء الكاتب الراهب "هيليناندوس" لا يأتي الكتاب الكهنوتيون على أي ذكر للكأس المقدسة."
وتضيف الموسوعة " أن الكنيسة الكاثوليكية تجاهلت الأسطورة تماما، وأن الأمر على ما يبدو عائد إلى أن الأسطورة تحوي عناصر لا يمكن للكنيسة أن توافق عليها. كما أن مصادرها تقع في نطاق الـ"أبوكريفا" وليس في نطاق ما هو متعمد من قبل الكنيسة أو الكتاب المقدس."
ورغم أن أحدا لا يعرف إن كانت الكأس قد وجدت في الماضي أو أنها موجودة بالفعل في عصرنا، فإن تفردها وسحرها الحقيقي يكمن في قدرتها الغامضة على إبهار عقل الإنسان وإثارة غريزة البحث عن الكمال الضائعة في أعماقه.
ولعل عالم النفس الشهير "كارل يونغ" يصيب كبد الحقيقة عندما يقول:" إن حكاية الكأس المقدسة تمثل البحث عن الذات الداخلية، وبناء على هذا المنظور، فلا شك أن البحث عن الكأس المقدسة حي جدا، من الناحية الروحية... إلى يومنا هذا